شهد العالم منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي الكثير من التطورات والتحولات في وسائل الاتصال والإعلام، مهدت لانطلاقة الثورة الرقمية، التي بدأت إرهاصاتها الأولى في تلك الفترة ، لتبلغ أوجاً عظيما في الوقت الحاضر، ورافق تلك التطورات والتحولات تحولاً موازيا من جهة المستخدمين والمتلقين نحو تلك الوسائل، فكانت تلك ولادة الإعلام الرقمي الذي كان مزيجا من قوة تكنولوجية، واقبالا قويا من الجماهير، واضعا وسائل الإعلام التقليدية في مكان لا تزال معالمه غير واضحة، وفرض عليها كثير من التحديات لتواكب التطور المثير في الإعلام الرقمي ووسائله، ولم يحدث الإعلام الرقمي ذلك التحول في الوسائل فقط، بل من ناحية المحتوى المتنوع، ومن ناحية القدر الواسع من الحرية والتعبير عن الرأي وبث القضايا والمشاكل التي تواجه الشعوب، ووجهات النظر المختلفة منهيا بذلك عقودا من هيمنة الإعلام الدولي للمشهد الاتصالي والإعلامي في العالم، وواضعا الأنظمة الإعلامية الوطنية في موضع لا تحسد عليه، فكان ذلك أن قلص سطوة و مقص الرقيب الحكومي، معززا ذلك بالعديد من المميزات والخصائص التي لبت حاجات ورغبات المستخدمين مثل التفاعلية، والآنية ، والشيوع ، وسهولة الاستخدام، وصناعة المحتوى الإعلامي من قبل المستخدمين ونشرها لصالحهم، أو من خلال نشرها في وسائل الإعلام الرقمية .
لقد استطاع الإعلام الرقمي تغيير الكثير من المعادلات والتحييزات السياسية الدولية، وترافق ذلك التغيير مع انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، وتفرد الساحة الدولية بقطب آحادي، مما انتج العديد من اعمال العنف والصراع وعدم التسامح وتزايد وتيرة الحقد والكراهية بين الشعوب والافراد والتمييز بينهم على أساس الدين والعرق واللون، وعلى ضوء ذلك يتضح أنّ الإعلام الرقمي يمكن أن يسهم اسهاما كبيراً وفعالا في تعزيز ونشر ثقافة التسامح والاعتدال والسلم المجتمعي والعالمي المستدام، ولعل بعض المؤشرات الإيجابية بدات تلوح في الأفق، وبدأ يظهر جليا دور الإعلام الرقمي في تغيير كثير من وجهات النظر الدولية سواء أكان ذلك للأنظمة أو الشعوب حول قضايا عالمية مهمة، مثل النزاعات والصراعات والحروب، وصراع الحضارات والأديان وخطاب الكراهية، وباتت الصور الذهنية التي رسمها الإعلام الدولي الغربي حول كثير من القضايا والمفاهيم محل تساؤل وشك من قبل الرأي العام الغربي ذاته، لذا يتضح في هذه اللحظة من الزمن أهمية ودور الإعلام الرقمي في ترسيخ مفاهيم العدالة والتسامح والاعتدال والسلام العالمي، ويتأتى ذلك من عظم القدرة على استيعاب المعطيات الجديدة والمتجددة التي وفرتها وسائل الإعلام الرقمي، ويبقى الرهان على مدى القدرة على إنتاج محتوى إعلامي عالمي مؤثر يعزز تلك المفاهيم .
إنّ الإعلام الرقمي المهني بكافة وسائله، وأن عدّ ناقلاً اساسياً ورئيساً لقيم الاعتدال والتسامح والسلم المجتمعي المستدام في جميع بلدان العالم، فلا شك أنّ المحتوى المتعلق به هو محتوى تشاركي ، ولم يعد حكراً على الإعلاميين ، بل أنّ وسائل الاتصال والإعلام الحديث أتاحت لكثير من المؤسسات والأفراد تعزيز ذلك المحتوى خاصة المؤسسات الدينية والسياسية والتشريعية والقانونية والمستخدمين الأفراد لمنصات التواصل الاجتماعي، وعلى ضوء ذلك يستطيع الإعلام الرقمي المهني أن يلعب دورا فعالاً في تمكين الجهود التي تقوم بها المؤسسات المعنية والافراد في هذا المجال .